ماذا يعني أن تكون مواطناً في دولة فاشلة؟
جريدة النهار تاريخ 3 أيلول 2016
أولاً ماذا يعني أن تكون الدولة فاشلة؟ يتوافق علماء الاجتماع السياسي على مفهومٍ للدولة الفاشلة يقوم على عاملين أساسيين هما، أولاً أن تفقد الدولة حصرية امتلاك السلاح واستعماله بواسطة قواتها الشرعية، وثانياً أن تعجز الدولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطن.
في الدولة الطبيعية يعتمد المواطن على أجهزة الأمن الرسمية لحمايته، وللدفاع عنه من اي اعتداء قد يتعرض له، أو من أي محاولة افتئاتٍ على حقوقه. ولكنه في الدولة الفاشلة يعتمد على ساعدِه. فإذا استطاع أن يأخذ حقه بيده، "فبها ونعمت"، وإلا فإنه يلجأ إلى من يساعده، حزباً كان أو طائفة أو مجموعة من الأنصار والمأجورين.
الدولة الطبيعية هي صاحبة الحق الوحيد في امتلاك القوة. وهي صاحبة السلطة المطلقة في استخدامها. في الدولة الفاشلة، الدولة هي مجرد زائد واحد إلى مجموعة القوى المسلحة أو المالكة للقوة والمستخدمة لها. وسواء كان الأمر يتعلق بالأمن الداخلي أو بالأمن الخارجي، فإن الدولة الفاشلة ليست صاحبة الرأي الأول ولا هي صاحبة القرار الأول. واذا كان لها رأي مخالف عن رأي أو عن موقف قوة محلية، فهي لا تعلنه... وحتى إذا اتخذت قراراً "سليماً" لا يلقى هوى لدى قوى الأمر الواقع وأعلنته، فإنها تضطر إما للإقرار بخطئها والرجوع عنه... أو على الأقل إلى الاكتفاء بإعلانه على قاعدة "وكفى الله المؤمنين شر القتال"!
تفتقر الدولة الفاشلة إلى رجال دولة وإلى رجال حكم. وهي تنتفخ برجال السلطة وزعماء الشوارع.
تقوم الدولة الطبيعية على ثلاث سلطات مستقلة، السياسية والتشريعية والقضائية. في الدولة الفاشلة تتداخل هذه السلطات بحيث تزول الحدود الفاصلة بينها ويعطل بعضها عمل الآخر. ومن خلال هذا التداخل التعطيلي تتكون سلطة جديدة من خارجها وتتولى العمل على حسابها وتكون هي السلطة الفاعلة والمؤثرة وصاحبة القرار. إنها سلطة الأمر الواقع. تتمثل هذه السلطة إما في حزب مسلح مستقوٍ على كل السلطات، أو في طائفة متمردة على كل القرارات، ولكنها تنعم بفائض من القوة العسكرية والمالية.
في الدولة الطبيعية، للمواطن حقوق وعليه واجبات. أما في الدولة الفاشلة فليس للمواطن حقوق إلا في الشكل، وهو يتهرب من أداء الواجبات لعدم ثقته بسلطة الدولة ورجالاتها، ويكون التهرب إما من خلال التحايل على القانون، أو من خلال الرشوة، أو من خلالهما معاً.
في الدولة الطبيعية الاختلاس جريمة، ولكنه شطارة في الدولة الفاشلة. فاللص هنا ليس من يسرق، بل من يفشل في تغطية سرقاته. تتوفر التغطية على السارق أو المختلس أو المرتشي في الدولة الفاشلة من خلال تقاسم السرقات والرشوات مع زعماء الطوائف الذين يحولون اتهام السارق إلى اتهام لطائفته. ولأن الطائفة في الدولة الفاشلة هي أرفع قدسية من الدولة، وبالتالي هي أقوى من السلطة، فان المتهم بالسرقة يتوج بطلاً في طائفته ومدافعاً عن حقوقها ويشق بذلك طريقه في معارج الدولة الفاشلة متقلداً مناصبها العليا ممثلاً لطائفته، مما يدفعها نحو المزيد من السقوط في هاوية الفشل، ويدفعه نحو المزيد من الارتقاء في مناصب السلطة الفاشلة.
تتولى الدولة الطبيعية تأمين الخدمات الأساسية للمواطن: النقل العام، المياه، الكهرباء، التعليم، الصحة، وفوق ذلك الدفاع عن الأمن الداخلي وعن السيادة الوطنية.. إلخ. أما في الدولة الفاشلة، فان هذه المسؤوليات تتولاها أحزاب أو طوائف أو مجموعات من القبضايات، بحيث يصبح المواطن مديناً لها، محتمياً بها وحامياً لها، خاضعاً لإرادتها ومعتمداً على خدماتها، وبالتالي موالياً لها ومستغنياً عن الدولة ومتخلياً عنها. وهو يجد نفسه مضطراً لأن يترجم ذلك كله بنقل ولائه من الدولة العاجزة الى صاحب الفضل القادر، فتتحول بذلك الدولة إلى اسم بغير مسمى، أو إلى هيكل فارغ من أي محتوى، ويصبح صاحب الفضل هو صاحب السلطة صاحب الكلمة العليا.
ولذلك لا يوجد حُكم في الدولة الفاشلة، توجد سلطة. ولا يوجد حكام في الدولة الفاشلة، يوجد سلطويون ومتسلطون يدافعون عن مصالحهم ويتبادلون التهم مع منافسيهم ومع خصومهم بألسنة سليطة. وكلما كانت التهم خطيرة ومفضوحة، يكون صوت المتهم أعلى نبرة، وتكون لغته أكثر حدة، ويكون منطقه أشد حماسة في الدفاع عن مصالحه باعتبار أنها تتماهى مع المصالح العليا للوطن ومع الحقوق المشروعة للطائفة التي ينتمي أو ينتسب إليها.
في الدولة الفاشلة لا يلجأ صاحب القضية إلى القضاء. يلجأ إلى عصبية مذهبية أو الى قوة حزبية. فإن لم يجد يكوّن جماعة لحسابه تتولى هي وبقواها الذاتية استعادة حقه أو ما يعتقده هو أنه حقه. فهو لا يستقوي بمخافر الأمن لأنه يعرف أنها تعرف أن لها حدوداً لا تستطيع تجاوزها.
حتى المشي على الرصيف في الدولة الفاشلة ليس آمناً، فقد تجتاحك من الخلف دراجة نارية يحمل سائقها نرجيلة ومشعل نار لزبون "بصلته محروقة"، أو أن اكراميته حرزانة للإطاحة بك... أو قد تصدمك سيارة يقودها سائق مشغول بقراءة رسالة تلقاها للتو على هاتفه الخليوي.
في الدولة العادية تتحول النفايات إلى مصدر اضافي للطاقة أو الى سماد صالح للزراعة ويعاد تدوير المواد الصلبة والزجاجية والورقية منها لاستخدامات أخرى. في الدولة الفاشلة تصبح النفايات دليلاً جديداً على العجز ورمزاً فجاً للفشل وانغماساً فيه حتى الاختناق.
منابر دوائر الدولة الفاشلة تطلق أهم نظريات معالجة القضايا الوطنية، ولكن محاولات تطبيق هذه النظريات تجهضها هذه الدوائر ذاتها. ذلك ان المشكلة ليست في النظرية، ولكن المشكلة في النظر! قد تكون النظرية صحيحة وجيدة، ولكن سوء النظر إلى النظرية هو الأهم. ويتمثل سوء النظر في سوء حسابات توزيع الحصص والمكاسب والمغانم، والذي يقع في أساس الفشل، وتالياً في أساس الدولة الفاشلة.
والسؤال الآن: هل أن لبنان دولة فاشلة؟
لا يُحكم على الدولة بالفشل من خلال عجزها عن انتخاب رئيس للجمهورية فقط، أو من خلال تعثر مجلس نوابها في الاجتماع فقط، أو حتى إذا لُويت يد الحكومة فقط لمنعها من اتخاذ أي قرار. ولكن تصبح الدولة معرّضة للفشل إذا تجمعت كل هذه الوقائع.
كذلك لا يحكم على الدولة بالفشل إذا عجزت عن تحرير أرض يحتلها عدو اسرائيلي. ولكن يحكم عليها بالتردي نحو الفشل إذا استُدرجت الى حرب ضد عدو آخر غير العدو الذي يحتلّ أرضها.
ليست فاشلة بالضرورة الدولة التي تغرق في ديون خارجية وداخلية تزيد على 73 مليار دولار، ولكنها تتهاوى نحو الفشل عندما ترفض اليد الممدودة لانتشالها من الغرق ولمساعدتها على تطوير وتحسين اقتصادها حتى تتمكن من تسديد ديونها...
يثبت القدر، مرة جديدة، أنه لم ييأس من مساعدة الدولة اللبنانية من خلال ثروة النفط والغاز التي أفاء الله بها عليها في مياهها الاقليمية. غير أن بعض المتنفذين في السلطة يهدرون هذه الثروة ويبددون الآمال المعقودة عليها بسبب صراعاتهم حول نسب عمولاتهم ومكاسبهم.
إن دولة تعاني من شحّ المياه ومن تسرّبها عبر أنابيت مهترئة أكل الدهر عليها وشرب، ومن التلوث البيئي الحاد، ومن ترهّل البنية التحتية وتأكلها، ومن ارتفاع نسبة البطالة، ومن هجرة الكفايات العلمية والثقافية، ثم تستقبل ومن دون أي تخطيط أو دراسة أو تنظيم ما يعادل نصف سكانها من المهجرين، هل يمكن ان تكون دولة ناجحة تبني للمستقبل؟
يهرب المواطن اللبناني من واقعه الداخلي المرير إلى دولة أجنبية إما للسياحة أو للمشاركة في مؤتمر أو للبحث عن عمل؛ فيتعرض أولاً إلى الامتهان، وهو لا يزال في عاصمة دولته مستجدياً التأشيرة أمام أبواب السفارات الأجنبية. حتى اذا حصل عليها بعد "لأيٍ وجهد"، فإنه يخضع ثانياً لتحقيق مذل من قبل جهاز أمن مطار الدولة التي يحمل التأشيرة التي تسمح له بالدخول اليها. ذلك أن جواز السفر – وليس التأشيرة - هو موضع التساؤل والشك. وهو المؤشر للإدانة المسبقة.. حتى يثبت العكس.
علّمنا التاريخ أنه في الدولة الفاشلة يختلف كبار المسؤولين حول جنس الملائكة، فيما العدو المحتل يقف مستنفراً خلف الباب، وفيما العدو الإرهابي يتسلل عبر الجبال، وفيما العدو الاجتماعي، فقراً وبطالة، يغزو كل مدينة وقرية.. وكل حي وبيت..
ولكن ما فائدة ما تعلمناه؟
مرّ لبنان بتجربتين دفع ثمن كل منهما غالياً جداً:
التجربة الأولى هي الحرب الداخلية التي انفجرت أو فُجّرت فيه، إما تسديداً لفواتير خارجية، أو رغبة في تحقيق طموحات وهمية.. أما التجربة الثانية فهي التسوية الوطنية (في "الطائف")، التي أعادت تركيب الدولة على قاعدة أن الجميع خاسرون.. أو أن الجميع رابحون.
لم يتعلم لبنان من التجربتين. فالفواتير الخارجية لا تزال تتراكم فوق كاهله، سندات التشجيع التي تنهمر عليه من كل حدب وصوب كلها من دون رصيد، ومعها تتراكم الرهانات الخاسرة التي تكرس خسارة الجميع، ليس فقط لرهاناتهم، بل لوطنهم.
رغم كل ذلك، يرفض اللبناني قبول الفشل أو الرضوخ والاستسلام له. ويذهب في رفضه إلى تحدي أسبابه، أو على الأقل إلى التهرب من معايشته كأمر واقع. ومن الأدلة على ذلك أن لبنان لم يشهد في أي موسم صيف هذا الكم الكبير من المهرجانات الفنية، الغنائية والموسيقية، التي شهدها هذا العام (2016) من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب.
أقفل العديد، بل الكثير من المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية الراقية في الوسط التجاري في بيروت، ولكن لم يُعلن عن إفلاسٍ واحد. تقطعت طرق السياحة إلى لبنان، فلم يتوقف فندق واحد عن العمل.
اختنقت الصحف والمجلات الورقية بسبب تراجع دخل الاعلانات، نتيجة للتراجع الحاد في الاقتصاد الوطني، ولكن لم يتوقف أي منها عن الصدور.
أقفلت الطرق أمام الصادرات اللبنانية الزراعية منها والصناعية، فاكتشف اللبناني الطريق البحرية عبر قناة السويس والبحر الأحمر.
توقف معظم الطلاب العرب عن الدراسة في جامعات لبنان، فذهب اللبنانيون بجامعاتهم ومدارسهم إلى الدول العربية.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتشعبة، وهي تشير إلى أنه حتى إذا تصدّعت الدولة في لبنان وانزلقت نحو الفشل، فإن الانسان اللبناني ليس من النوع الذي يستسلم للفشل. إنه يخترع الأمل من أجل أن يكون لبنان ليس دولة غير فاشلة فقط، ولكن من أجل أن يكون دولة رسالة أيضاً.
0 تعليقات:
ارسال التعليق