الجمهورية المعطَّلة ضعف لبنان من قوّة زعمائه
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-11-24 على الصفحة رقم 1 – الصفحة الأولى
لا حاجة لإعادة اكتشاف لبنان. هذا هو. جديده قديم. الوعد بلبنان القوي، وهم. هو ضعيف جداً. لا طاقة له على السير إلى الأمام. فضيلته الكبرى انه يعيد إنتاج قديمه، أياً كان الرئيس، أياً كانت الحكومة وأياً كان مجلس النواب. عناصر تراجعه حاضرة. عناصر قوته مفتقدة. «شعبه العظيم» مغيَّب ومبدَّد بين انتماءات تلغي الوطن والمواطنة وتفتت الدولة. «لبنان القوي» عاصٍ على التغيير والإصلاح. يعيش بأصالة طائفية لا يمسها أحد من فوق، ولا يتجرأ عليها أحد من تحت. طائفية حاضنة للدولة ومؤسساتها ومحتضنة من زعامات تمون على الناس، وبالإشارة تفهم. الطائفية تمنحه مناعة ليبقى كما هو، أو من سيئ إلى أسوأ...
الدليل، مشهد التأليف الحكومي. الآلية المعتمدة، ترجمة فادحة لأساليب، ثبت بالزمن أنها الأسوأ. مطالب لا علاقة لها بهموم الناس، بمشاكل الشعب، بقضايا الشباب، بأزمات مزمنة ومكلفة ومرهقة. ولا كلمة عن البطالة، عن الغلاء، عن الكهرباء، عن المياه، عن السير، عن التعليم، عن الجامعة اللبنانية ودكاكين الجامعات الخاصة، ولا عبارة عن التنمية، عن الريف المفرغ من سكانه، عن النفايات، جائزتنا الحقيرة من طبقة تحتقر شعبها. ولا موقف من قضاء مستباح ومؤسسات منتهكة وبيئة كارثية. لا قدرة لأحد على تسمية الأشياء بأسمائها. أكثرية اللبنانيين، وفق «ابسوس»، تعترف بأن الفساد مشكلتها الأولى. السلطة والإدارة والمؤسسات والأموال العامة والأملاك العامة والقضاء العام، بيد هؤلاء... كل أمل سراب.
«لبنان القوي» مصاب بشلل نصفي اليوم، بعدما كان على قارعة الشلل الكلي، قبيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتكليف رئيس جديد لحكومة جديدة صعبة التأليف.
بسرعة، تضاءلت مفاعيل التفاؤل، بعيد انتخاب الجنرال رئيساً «قوياً». الكلام المتداول راهنا، من أركان الطبقة السياسية، في غاية الركاكة الوطنية. كلام انتهازي مفضوح. مضمون الكلام: هذه حصتي وتلك لك وهذه لسواي. آلية المحاصصة، لا ينص عليها دستور أو نظام أو قانون أو عرف. كلام يعبّر عن عقلية السطو والاستئثار والغصب والتشليح...
المحاصصة هي الأقوى. لا ينافسها منطق أو أخلاق أو وطنية. للموارنة حصة لا تُمس. توزيعها وفق منطق القوة والاستقواء. التحالف العوني القواتي هو الأقوى. حصتهم مبرمة. ما سيُعطى لغيرهم من المسيحيين، «منحة كريم»، وليست استحقاقاً، حصة الشيعة متراس. منه تطلق السهام على التأليف. الرئيس بري يصوّب من منصة التأليف على الرئيس. الرئيس معتصم بالصمت، ويقف في الوسط، بلا حول ولا قوة. حصة السنّة تتسامح بالتخلي عن ضحية تكون من حصة الرئيس. بدعة لا مثيل لها: إذا أضيف إلى حصة الرئيس الماروني، شخصية سنية وأخرى شيعية. يظهر الرئيس وكأنه لكل الوطن. سبق أن قام زياد الرحباني ببرهنة واضحة: طائفي زائداً طائفياً يساوي طائفيين. فبركة الوطنية لا تكون بتمثيلية الاستعارة. الرئيس الماروني، هو ماروني. الرئيس السني هو سني، الرئيس الشيعي هو شيعي. وليد جنبلاط موحِّد درزياً لا وطنياً. والدولة مقسّمة قسمة ظالمة، بين هؤلاء.
كي لا يُمس أحد بأن هذا الكلام يظلمه نفسِّر: المسألة ليست شخصية. بين زعماء الطوائف في لبنان ملحدون أو غير مؤمنين لا بدين ولا لطائفة. الدين والطائفة سلعتان مربحتان. ينطبق هذا على قادة كثر في العالم الثالث. لذا، العلة في لبنان، ليست في الرئيس، بل في الرئاسة. وليست في رئيس الحكومة بل في الحكومة، وهي كذلك في مجلس النواب.
العلة الأولى، لا تتناول الجنرال عون رئيساً، على المستوى الشخصي. العلة في بؤس الرئاسة، من قبلُ ومن بعدُ. كانت الرئاسة قبل «الطائف» مريضة بقوتها. أساء البعض استعمال هذه القوة إلى موازين الطوائف. اختل ميزان القوى، فوقع لبنان في الدم... بعد «الطائف»، انتُزعت القوة من الرئاسة، ووُزعت على أعضاء مجلس الوزراء. تبدَّدت القوة اللازمة للسلطة. لذا، الرئاسة لم يعد ينقصها رئيس قوي، غير قادر على صرف الفائض من قوته. الأقنية الدستورية لا تسمح له بذلك. هو رئيس مقيّد بالضعف. وإذا غامر واستعمل قوته، أصيب لبنان بعارض جنون الطوائف. الثمانينيات درس. الحرائق العربية درس يقوم بكيّ الوعي.
لقد رسا لبنان على نظام تتآكله الطوائف. وللطوائف أنياب أشد فتكاً من ذئاب الديكتاتورية. إذا قيس لبنان بأمسه الاستقلالي، بدا متداعياً وفاقداً للمناعة. الماضي، أو المزرعة كما سماها رئيس ثاني حكومة بعد الاستقلال، عبد الحميد كرامي، تبدو «فردوساً» مفقوداً وأندلساً، جديراً البكاء عليها. إن هذا الحاضر من ذاك الماضي، ولكنه لا يشبهه لما تعرض له من تشوّهات، آخرها: «الأقوى في طائفته يحكم».
بناءً على هذه القاعدة، يلزم ألا يتوقع اللبنانيون، إلا أسوأ الحكومات وأسوأ المجالس النيابية. وبالبرهان دليل: الأبواب مفتوحة في رئاسة الجمهورية، للأقوى في طائفته أكان مرتكباً أو بطلاً. ورئاسة الحكومة للأقوى ولو كان مرتهناً أو استقلالياً، ورئاسة المجلس للأقوى ولو كان فاسداً أو قديساً. معايير الأخلاق والوطنية والذكاء ليست واردة. إن ما أقدم عليه الجنرال مرشحاً، هو تكريس ديكتاتورية الطوائف بواسطة تخليد زعاماتها.
دليل آخر: الحكومة ستتألف من الأقوى وأتباعهم. وهؤلاء، يتوزعون تعيين المدراء العامين وموظفي الدرجة الأولى وطبقة واسعة من القضاء والمؤسسات المدنية والعسكرية... هذه الدولة، التي سيتم تركيبها من ضمن هذا المنطق، ستشبه هؤلاء القادة. والمعارك التي ستنشب بين قيادات الطوائف في الحكومة، ستكون حول المؤسسات المجزية مالياً وفساداً، تماماً كما هي الحال، في التنافس القائم على الوزارات الدسمة كالمالية والأشغال والطاقة والمواصلات والصحة والتربية... غريب. لا أحد يتحدث عن وزارة البيئة، علماً أنها الأهم نظرياً. البيئة يتيمة. كل الآباء مقيمون على أبواب الوزارات المجزية. فهل تنام نواطير الشعب إلى هذه الدرجة، عن ثعالب النظام؟
كل ما يقال عن الديموقراطية والحرية والسيادة والاستقلال والميثاقية هو كذب بكذب في كذب.
علينا أن نكف عن تصديق سيل الأكاذيب في ما تبقى لنا من لبنان. إن هؤلاء الأقوياء يسدّون الطريق إلى الوطن. قريباً، تنتهي الأفراح... الأتراح لن تتأخر كثيراً.
0 تعليقات:
ارسال التعليق