مشاركة حقيقية أو استمرار الفوضى غير البناءة
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-08-31 على الصفحة رقم 1 – الصفحة الأولى
جمهورية لبنان الأولى بدأت في عام 1926 مع إعلان «دولة لبنان الكبير» جمهورية، وانتهت مع الاستقلال وانتهاء الانتداب الفرنسي في العام 1943. الجمهورية الثانية لم تنتهِ مع اتفاق الطائف في العام 1989، بل بعد الانتخابات النيابية لعام 1992. فاتفاق الطائف عدّل الدستور ونقل معظم صلاحيات رئاسة الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعا، وهذا تطور طبيعي، ولو منقوصاً، لأي نظام، خاصة أن رؤساء الجمهورية الثانية كانوا يمارسون السلطة، الى حد بعيد، بالاتفاق مع رؤساء الحكومات.
الطائف نقل الحكم في لبنان من نظام شبه رئاسي الى نظام برلماني. ولما كان الحكم في لبنان ممارسة أكثر منه دستورا وقوانين، فقد أرسى التشريع والممارسة لأول برلمان بعد انتهاء الحرب وأول حكومة بعد تلك الانتخابات قاعدة الحكم في لبنان وبداية للجمهورية الثالثة.
قاطع معظم المسيحيين وجزء كبير من المسلمين الانتخابات النيابية في العام 1992، وانتخب 13 في المئة من الناخبين اللبنانيين مجلسا نيابيا اعتبره المسيحيون، وخاصة الموارنة، غير ممثل لهم. الحكومة التي شكلت في خريف 1992 عكست نتائج الانتخابات النيابية ومن ثم إقصاء الأحزاب والتكتلات المسيحية الكبرى عن الحكم بكامله.
تم ذلك برعاية نظام الوصاية السورية الذي ركب نظام الـ «ترويكا» من الزعماء المسلمين لحكم لبنان، على أنقاض المارونية السياسية. رئيس الجمهورية منذ ذلك الوقت أصبح هامشيا وكذلك الوزراء المسيحيون الذين باتوا يستعينون ويستقوون، عندما يحتاجون وتسمح لهم الظروف، بالسوريين لقضاء حاجاتهم وأخذ حصتهم وحصة مناطقهم من حكم الـ «ترويكا».
أنظمة الانتخابات التي كان يصنعها نظام الوصاية بالتنسيق مع الـ «ترويكا» اللبنانية كفلت تغييب التغيير السياسي وتداول السلطة، بالإضافة الى تجذير الاحتكارات الاقتصادية التي ترعرعت في الجمهورية الثالثة ومنها احتكارات النفايات، والمطار (منطقة حرة وتكسيات)، مشاريع كبرى وصغرى، مرفأ، مالية، اتصالات، إغاثة والزفت وغيرها.
كان المسيحيون يتهمون السوريين بفرض نظام الـ «ترويكا» وترسيخه في لبنان. هذا النظام، بنظر معظمهم، همّش وجودهم ودورهم وأحبط مشاركتهم، سياسيا واقتصاديا، في بناء الدولة، وهم من يعتبر أن جمهوريتهم (الثانية) برغم المآخذ عليها، رسخت أسس دولة عصرية قل فيها الفساد والفوضى والارتباط بالخارج عن المعدلات الدولية، وفاقت في تقدمها دول المنطقة جمعاء.
اعتقدوا أن الفرج أتى مع نهاية عهد الوصاية السورية في ربيع عام 2005. دقوا الأجراس عندما أعلن الرئيس بشار الأسد خروج سوريا الكامل من لبنان. لكن مع تهميش الدور السوري، قام تضامن بين كل القوى الإقليمية والدولية المعنية مع الـ «ترويكا» ودعمهم لإجراء الانتخابات بقانون الـ2000، المعروف بـ «قانون (المفوض السوري السامي) غازي كنعان»، بالإضافة الى تحفيزهم لإقامة حلف رباعي من أحزاب الطوائف الإسلامية. أُحبط المسيحيون مجددا لان قانون الانتخابات والحلف الجديد اعتبرا حاجزاً صلباً أمام تداول السلطة، لأنهما يكفلان بقاء نظام الـ «ترويكا» في الحكم.
لكن هذه المرة لم تقاطع القوى المسيحية الانتخابات، واستطاع الجنرال ميشال عون منفردا أن يسجل انتصارا كبيرا في كل المناطق المسيحية التي ربح أو خسر فيها الانتخابات، اذ إنه تلقى دعم حوالي الـ70 في المئة من الناخبين المسيحيين، الذين تضاعفت نسبة اقتراعهم مقارنة بالانتخابات السابقة التي أجريت بعد اتفاق الطائف.
وبالرغم من انتصاره الكبير، لم يدع الجنرال عون الى الحكومة، وتمثلت القوى المسيحية الحزبية بعد انتخابات 2005، بوزراتي الصناعة والسياحة، وكتلتي نواب المستقبل والاشتراكيين بتسعة وزراء مسيحيين. لقد رفضت الـ «ترويكا» أن يمثل المسيحيين أقواهم. وحتى بعد ان توصل الجنرال مع «حزب الله» الى ورقة تفاهم، كان التأخير في تشكيل كل الحكومات التي لحقت، يدور حول تقليص عدد وزراء الجنرال ونوعية حقائبهم، وقد تأخر تشكيل بعض الحكومات لعام كامل!
الممانعة للمسيحي الاقوى سرت ايضا على رئاسة الجمهورية. الـ «ترويكا» لا تريد مارونياً قوياً رئيساً للجمهورية. انها تخشى ان يخربط لعبتها كما فعل الرئيس إميل لحود خلال عهده الاول وكان مدعوما من دمشق. إنهم على استعداد لتعطيل انتخاب رئيس ميثاقي يمثل بيئته، حتى ولو طال الفراغ.
معادلة الـ «ترويكا» هذه مستمرة بقوة قوانين الانتخاب التي لا تسمح لكل من المكونات اللبنانية، وخاصة المكون المسيحي، أن تنتخب ممثليها. إن المحاولات المتعددة لتغيير القانون لاقت الممانعة القوية وهذه المرة بالأخص من المنتفع الأكبر من هذه القوانين، تيار المستقبل الذي يملك الحصة الكبرى من النواب والوزراء المسيحيين الذين لا يمثلون مكوّناتهم.
باختصار، لن يستقر لبنان سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وستستمر فيه الفوضى غير البناءة، من دون الاتفاق على قانون جديد للانتخاب يتصف بالميثاقية والإنصاف والعدالة، ويترجم بالشراكة الحقيقية، ويسمح بانتخاب رئيس للجمهورية يكون ممثلا لمكونه، أسوة بانتخاب واختيار رئيسي مجلسي النواب والوزراء. إن غياب تداول السلطة في لبنان منذ بدء حكم الـ «ترويكا» العام 1992، أدّى الى حكم سلطوي لم يعط لبنان واللبنانيين سوى انعدام الاستقرار والفساد والقرف.
0 تعليقات:
ارسال التعليق