هكذا أشعلت واشنطن الحرب الأهليّة اللبنانيّة [5]: بروز دور «تاجر الموت» اللبناني
جريدة الأخبار - سياسة - العدد ٢٩٩٨ السبت ١ تشرين الأول ٢٠١6
يكشف كتاب صدر حديثاً في الولايات المتحدة دور واشنطن في السياسة اللبنانيّة في بداية الحرب الأهليّة. الكتاب الذي يحمل عنوان «ميادين التدخّل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة وانهيار لبنان، ١٩٦٧ ــ ١٩٧٦»، يعتمد على الأرشيف الأميركي من سجلات وزارة الخارجية ودوائر استخبارية وغيرها، ويُظهر في صفحاته ضلوع واشنطن في إشعال الحرب الأهليّة وإذكائها وكيفية تعاملها مع «حلفائها» في بيروت. في ما يأتي، الحلقة الخامسة من السلسلة التي تنشرها «الأخبار»
بناءً على ما تقدّم، حسمَ العدوّ الإسرائيلي والحكومة الأميركيّة أمرَهما بعد «أيلول الأسود». المطلوب من الحكومة اللبنانيّة تقليد الحكومة الأردنيّة في ارتكاب مجازر ضد المقاومة الفلسطينيّة، لأن خيار التدخّل العسكري الأميركي المباشر — الذي كان كل الزعماء الموارنة ينشدونه — لم يكن مُحبّذاً، وإن أبقت واشنطن عليه كخيار في مداولات اجتماعات الأمن القومي.
كان التعويل على سليمان فرنجيّة، في أنه سيكون أكثر قسوة في التعامل مع المخيّمات الفلسطينيّة. لكن ما لم يرد في كتاب ستوكر، أنّ محاولة النظام اللبناني في أيّار ١٩٧٣ لتصفية المقاومة الفلسطينيّة باءت بالفشل الذريع. استبسل عناصر المقاومة الفلسطينيّة (وساندهم لبنانيّون في صفوف المقاومة) في الدفاع عن النفس. وكانت مهمّة فرنجيّة واضحة منذ انتخابه (وفق «تقرير رئاسي إخباري» من ١٨ آب ١٩٧٠، من جملة التقارير اليوميّة التي تعدّها وكالة المخابرات الأميركيّة للرئيس كل صباح والتي نُشِر بعضها قبل أسابيع فقط هنا)، وهي تكمن في «السيطرة على الفدائيّين». لكن فشل الجيش اللبناني أدّى إلى زيادة التعويل على الميليشيات اليمينيّة للأقطاب الموارنة.
معركة واشنطن ضد اليسار
وكانت الولايات المتحدة معنيّة بخوض الحرب ضد اليسار في المقاومة الفلسطينيّة، ليس فقط بسبب اعتناقها العداء لإسرائيل، بل لأن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين أعلنتها حرباً على الإمبرياليّة الأميركيّة في تلك الحقبة، ولأن محاربة اليسار حول العالم ــ خصوصاً إذا كان مُسلّحاً ــ كان من صلب عقيدة «الحرب الباردة» للحكومة الأميركيّة. وفي بيان رسمي للجبهة الشعبيّة في نيسان من عام ١٩٧٠، أعلنت المسؤوليّة عن «ضرب المصالح الأميركيّة» وتبنّت تفجيرات ضدها في لبنان، بما فيها ضرب السفارة الأميركيّة في بيروت وضرب مصفاة الزهراني وبنك «أوف أميركا» و«شركة التأمين الأميركيّة» و«مركز جون كنيدي» (أي إنّ الجبهة تبنّت عمليّات قامت بها مجموعات يساريّة صغيرة، لكن تبنّي الجبهة لها كان لحمايتها أو رعايتها). («الهدف»، ٤ نيسان، ١٩٧٠). ويتضح من التقارير الأميركيّة أنّ الحكومة كانت تتابع أخبار الجبهة ونشاطاتها، حتى الإعلاميّة منها.
أما سليمان فرنجيّة، فاتّبع سياسة مزدوجة: الإسهام في تسليح الميليشيات اليمينيّة الطائفيّة، والسعي إلى الحصول على المزيد من الدعم العسكري من الحكومة الأميركيّة (عبر مبعوثه السرّي لوسيان الدحداح، وليس عبر القنوات الديبلوماسيّة التي لم تكن مُستعملة في العلاقة مع أميركا أو مع العدوّ الإسرائيلي). وفي صيف ١٩٧٣، طلب شارل مالك من السفارة الأميركيّة في بيروت تدبير لقاء بينه وبين ريتشارد نيكسون، أثناء زيارة كان يقوم بها للولايات المتحدة، بعذر أنه يحمل رسالة من سليمان فرنجيّة (ص. ١١٤) (وكان مالك دائم السعي لزيارة البيت الأبيض، بذرائع مختلفة). لم تدبّر وزارة الخارجيّة لقاء لمالك مع نيكسون، أو مع مسؤولين في البيت الأبيض، وقد يكون ذلك لأن الإدارة الأميركيّة ضاقت ذرعاً بالاستجداء المُتكرّر للتسليح من قبل الميليشيات اليمينيّة. لكن مالك حظي بلقاء مع وزير الخارجيّة ويليام روجرز، وأبلغه رسالة فرنجيّة، ومفادها حسب تقرير أميركي عنها: «ما هو الحدّ الذي يمكن الولايات المتحدة أن تبلغه لدعم وحدة أراضي لبنان» في حالة تهديد من قبل سوريا أو «عمل فلسطيني ضد الحكومة» (ص. ١١٤). كان واضحاً أن بسالة المقاومة الفلسطينيّة في مواجهات أيّار زادت من إلحاح الميليشيات اليمينيّة على المزيد من التسليح. وكانت إجابة روجرز إيجابيّة، إذ أكّد له أن الحكومة الأميركيّة «ستلبّي قدر المستطاع احتياجات لبنان»، لكنه أضاف أن ما ستقدّمه أميركا لن يكون «مطلقاً». وقد تكون إضافة روجرز الاعتراضيّة هي للحدّ قليلاً من شبق الزعماء الموارنة لتدخّل عسكري مباشر على طريقة غزوة ١٩٥٨، التي أثارت شهيّة الزعماء اليمينيّين. ولم يكتفِ شارل مالك بجواب روجرز، بل لجأ إلى وساطة ويليام بارودي (الأب)، اللبناني الأصل، الذي كان مقرّباً من القيادات الجمهوريّة ورأس مؤسّسة «أميركان انتربرايز إنستيتوت» اليمينيّة، التي تحوّلت إلى نادي المحافظين الجديد في ما بعد. أراد مالك مرّة أخرة محاولة مقابلة نيكسون لتسليم رسالة من فرنجيّة (على الأرجح لتقديم طلب رسمي آخر لتسليح الميليشيات، ربما بحجم أكبر من السابق).
خيار التدخّل
وبالرغم من تجاهل مسؤولي الإدارة محاولة مالك الحصول على مواعيد في البيت الأبيض، فإن «مجموعة العمليّات الخاصّة» عقدت اجتماعاً في البيت الأبيض في حزيران ١٩٧٣ للبحث في مسألة لبنان، وتضمّن البحث خيار «نشر قوّات أميركيّة» لأغراض تتعدّى أسباب «الطوارئ والإجلاء». لكن الحكومة الأميركيّة كانت تُبقي أمر بحثها في خيار التدخّل العسكري المباشر في لبنان سرّاً، ولا تعلم حلفاءها من الزعماء الموارنة به. وكالعادة في اجتماع كهذا، جرت مقارنة بين خيارات التدخّل المُقترَح، وتدخّل عام ١٩٥٨. وأرسلت الحكومة الأميركيّة ردّاً متأخراً إلى الحكومة اللبنانيّة عن خيارات للردّ على احتمال غزو سوري للبنان، لكن الحكومة الأميركيّة حثّت على «ضرورة إجراء مشاورات بين لبنان وإسرائيل حول إمكانيّة القيام بدور إسرائيلي لردع السوريّين». وأبدت الحكومة الأميركيّة استعدادها للقيام بدور لتسهيل هذه المشاورات. وكانت أميركا تفضّل (وإن بتحفّظ بسبب أطماع إسرائيل في أراضي الدول العربيّة المجاورة لفلسطين) خيار تدخّل عسكري إسرائيلي في لبنان على تدخّلها هي. وأضافت الحكومة الأميركيّة في رسالتها مستدركةً إمكانيّة إجراء مشاورات أيضاً بين لبنان والأردن. وخاب أمل الحكم اللبناني الذي، لعلمه بالمكافآت العسكريّة الأميركيّة الهائلة للأردن بعد مجازر «أيلول الأسود»، كان يتوقّع ويطلب مساعدات عسكريّة أميركيّة بقيمة تراوح بين ٤٥ مليون دولار و٥٠ مليون دولار، لكن الحكومة الأميركيّة سارعت إلى إبلاغ الحكم اللبناني بأن عليه دفع ثمن نفقات أية قائمة مشتريات عسكريّة أميركيّة (والأرجح أن القرار عكس خيبة أميركيّة من أداء الجيش اللبناني في مواجهة الفدائيّين في أيّار ١٩٧٣). وتذكر الوثائق أن خبراء الشرق الأوسط في الإدارة الأميركيّة (تذكر أسماء «ويليام كوانت» وروي أثرتون)، طالبوا بضرورة وضع خطط طوارئ للبنان (وأن هذه الخطط أولى (حتّى) من خطط تتعلّق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي) لأن «الحكومة الأميركيّة تتلقّى تقارير عن احتمال حدوث صراع في لبنان في الخريف».
لكن اندلاع حرب أكتوبر حوّر الأنظار عن لبنان، لكن لبنان كالعادة تنصّل من مسؤوليّاته العربيّة، وأرسل سرّاً طمأنات عن حسن ــ أو بالأحرى سوء ــ نيّاته للعدوّ الإسرائيلي. وقد ألحّت الحكومة اللبنانيّة على الحكومة الأميركيّة أن تحثّ إسرائيل على عدم غزو لبنان. لكن العدوّ أكّد أنه سيُبقي خياراته مفتوحة، لو أن لبنان سمح لسوريا أو للفدائيّين بلعب دور عسكري في الحرب الجارية انطلاقاً من أراضيه. وسلّمت الحكومة الأميركيّة الرسالة الإسرائيليّة، طالبةً من الحكومة اللبنانيّة منع أي عمل عسكري ضد إسرائيل. و«مرّة أخرى»، يقول ستوكر، سعت الحكومة الأميركيّة للتوصّل إلى «ضمان غير مكتوب» بين لبنان وإسرائيل (ص. ١١٩). لكن إسرائيل قصفت مركز الرادارات اللبناني في الباروك بسبب مدّ لبنان سوريا بالمحروقات، وبسبب وضع رادارات لبنان في تصرّف الجيش السوري. وعندما سمح لبنان لطائرة سوريّة بالهبوط الاضطراري على أراضيه قرب الحدود مع سوريا، هدّد العدوّ الإسرائيلي لبنان رسميّاً بـ«عواقب خطيرة» في اجتماع للجنة الهدنة في الناقورة. وصادر الجيش اللبناني «كميّات كبيرة» من السلاح للمقاومة الفلسطينيّة كانت في طريقها إلى الحدود مع فلسطين. وفي الوقت الذي كان هناك فيه مخاوف من تنامي العداء الشعبي اللبناني تجاه الحكومة الأميركيّة، طمأن رئيس الوزراء اللبناني تقي الدين الصلح، الديبلوماسيّين الأميركيّين إلى أنه هو شخصيّاً والحكومة اللبنانيّة سيبذلان كل ما في وسعهما «لحماية المصالح الأميركيّة في لبنان». وبالفعل، حذّرت الحكومة اللبنانيّة قيادة الفدائيّين من مغبّة القيام باعتداءات على أميركيّين. وفي الحديث عن الإعداد لمؤتمر جنيف (الذي كان لبنان يودّ المشاركة فيه قبل اكتشاف نيّات العدوّ الإسرائيلي باستبعاد التمثيل الفلسطيني)، قال وزير الخارجيّة اللبناني فؤاد نفّاع للسفير الأميركي، بافم، إنّ كل ما يهم لبنان في هذه المفاوضات أن «يحلّ الفلسطينيّون عن ظهرنا». لكن لبنان لم يكن بذات أهميّة في الحسابات الديبلوماسيّة لهنري كيسنجر، الذي قال بصريح العبارة للسفير السوفياتي في واشنطن أناتولي دوبرينين: «لا نكترث بتاتاً لمشاركة لبنان أو عدم مشاركته» في المفاوضات الجارية.
وفي الوقت الذي كانت القيادة الفلسطينيّة تدين فيه الانحياز الأميركي للعدوّ الإسرائيلي في حرب أكتوبر وما تلاها، كان ياسر عرفات يرسل سرّاً إلى الإدارة الأميركيّة طالباً المفاوضات معها (ص. ١٢٣). وجرت بالفعل مفاوضات سريّة في المغرب، لكن كيسنجر كان جازماً في استثناء منظمّة التحرير من المفاوضات الديبلوماسيّة (يخطئ ستوكر في كتابه، في الإشارة إلى البرنامج «المرحلي» لمنظمة التحرير، وخلط بينه وبين برنامج «جبهة الرفض» الرافضة له) (ص. ١٢٤).
«الماريشال» غودلي
لكن نيات الإدارة الأميركيّة نحو لبنان تكشّفت في وصول السفير الأميركي الجديد، ماكتري غودلي، إلى لبنان في شباط ١٩٧٤. وكان السفير مُلقّباً (من قبل زملائه) بـ«المارشيال غودلي» بسبب ضلوعه المباشر في تدريب الميليشيات في لاوس، عندما كان سفيراً، وبسبب دوره في السفارة في الكونغو، إلى درجة أن الكونغرس رفض قرار نيكسون تعيينه مساعداً لوزير الخارجيّة لشؤون آسيا. وفي تقرير للسفارة الأميركيّة يرد أن الاتحاد السوفياتي كان يزوّد الصحف في لبنان بمعلومات عن خلفيّة غودلي الميليشياويّة، وأن السفارة أوصت وزارة الخارجيّة الأميركيّة بمفاتحة السفارة السوفياتيّة في واشنطن بذلك (أي لحثّها على التوقّف عن تزويد الإعلام اللبناني بمعلومات عن غودلي). وعنونَت جريدة «المُحرّر» في ٩ شباط ١٩٧٤ عن تعيين غودلي، قائلةً: «نيكسون يُعيِّن جزّار لاوس وفييتنام كسفير في لبنان».
وفيما حاولت منظمّات «جبهة الرفض» القيام بعمليّات ضد إسرائيل من لبنان، أبدى أبا إيبان، وزير خارجيّة العدوّ، تقديره للحكومة اللبنانيّة بعد أن أبلغ رئيس أركان الجيش اللبناني موسى كنعان، القائم بالأعمال الأميركي أن الجيش زاد من دوريّاته على الحدود وأنه سيطلق النار على الفدائيّين لو تجاوزوا «حدّاً ما». وكانت أميركا في تقاريرها السريّة واضحة في أن العدوّ الاسرائيلي كان يهدف في قصفه وعدوانه إلى إيذاء المدنيّين اللبنانيّين للضغط على الفدائيّين الفلسطينيّين. أي إن قتل المدنيّين وجرحهم كان سياسة إسرائيليّة مقصودة، وكانت أميركا على علم بها.
وفي الوقت الذي كانت فيه الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان تزداد وحشيّة، كانت العلاقة بين النظام السوري وإسرائيل تتحسّن، ووقّعت الحكومة السوريّة اتفاقيّة فك الاشتباك في ٣١ أيّار من عام ١٩٧٤. أكثر من ذلك، فقد تعهّد حافظ الأسد شفهيّاً إلى هنري كيسنجر بأن يمنع استعمال الأراضي السوريّة للقيام بأعمال ضد إسرائيل من قبل الفدائيّين. وطبعاً، كان هذا الالتزام السوري حديديّاً على مرّ السنوات. وزوّد ديبلوماسي أميركي طوني فرنجيّة برسالة سريّة إلى والده. وبالرغم من عدم نشر فحوى الرسالة، إلّا أنها تضمنت معلومات عن أن «جانباً» من الاتفاقيّة السوريّة ــ الإسرائيليّة له أهميّة خاصّة للبنان. وأجاب فرنجيّة بأن أباه سيكون مسروراً جدّاً لأن «الموقف السوري من مشكلة الفدائيّين»، كما وصفه السفير الأميركي، يتطابق مع معلومات الحكومة اللبنانيّة (عن موقف جديد نحو الفدائيّين من النظام السوري) (ص. ١٢٦). قد يكون ذلك إشارة أخرى إلى تعهّد الحكومة السوريّة بفرض ضوابط جديدة على عمل الفدائيّين الفلسطينيّين.
الجيش يُسلح الميليشيات
وفيما كانت الصراعات الداخليّة في لبنان تزداد احتداماً، كانت السفارة الأميركيّة في بيروت تتابع الأوضاع عن كثب، وكانت على صلة جديّة بمعظم القيادات الإسلاميّة. ويذكر ستوكر أن «المسؤولين الأميركيّين أقاموا علاقات وديّة مع موسى الصدر» ورأوا فيه سياسيّاً «معتدلاً نسبيّاً وحليفاً محتملاً» (ص. ١٣١). وكان موقف فرنجيّة من تسليح الميليشيات معروفاً آنذاك (أي بعد فشل الجيش في أيّار ١٩٧٣) بأن أوكل إلى الجيش اللبناني، ومخابراته تحديداً، أمر تسليح وإعداد ميليشيات الكتائب والأحرار وميليشيا الرئيس اللبناني نفسه («جيش التحرير الزغرتاوي»). أما عن دور الحكومة الأميركيّة في تسليح هذه الميليشيات، فإن المؤلّف ستوكر حذر جدّاً في البتّ فيها، مع أنه يعترف، حسب شهادة الديبلوماسي المعروف في تلك الفترة، روبرت أوكلي (خدم في لبنان في تلك الفترة)، إذ قال في شهادة شفهيّة له في سنوات تقاعده إن الحكومة الأميركيّة أمدّت هذه الميليشيات المارونيّة بالمال والسلاح قبل ١٩٧٣ (ص. ١٣١). لكنه أضاف أنه جال على قادة هذه الميليشيات قبل ترك منصبه في بيروت في ١٩٧٤ مُحذّراً إياهم من الوهم بإمكانيّة نشر قوّات أميركيّة لمصلحتهم، لكنهم لم يصدّقوه. لكن «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» نشرتا مقالات في التسعينيات عن قيام «المخابرات المركزيّة الأميركيّة» و«وكالة استخبارات الدفاع» بتسليح هذه الميليشيات. وفي مقالة من عام ١٩٩٩ في ٢٩ كانون الأول/ ديسمبر في «نيويورك تايمز» عن سركيس سوغانليان (سنعود للحديث عنه أدناه)، تحدّثت الجريدة عن دور لـ«وكالة استخبارات الدفاع» في تسليح الميليشيات في لبنان عبر سوغانليان.
وقد أورد الزميل نقولا ناصيف (وكان المؤلّف ستوكر قد قابله في بيروت أثناء إجراء البحث لأطروحته) في كتابه عن «المكتب الثاني: حاكم في الظلّ» أخبار شحن السلاح (في خمس طائرات من طراز سي-١٣٠) لحساب المكتب الثاني الذي كان يتولّى تسليح الميليشيات اليمينيّة (ص. ٤٨٠-٤٨٦). وتضمّنت الشحنة بنادق ورشّاشات (وشمل الطلب اللبناني من قبل مدير المخابرات جول بستاني، مدافع وهواوين) (ص. ٤٨٥). ووُزِّع السلاح على ميليشيات الكتائب والأحرار وجيش التحرير الزغرتاوي الذي كان طوني فرنجيّة، ابن الرئيس اللبناني، يرأسه. كما يرد اسم ميليشيا «التنظيم» التي كان لجول بستاني اليد الطولى في إنشائها وإعدادها، قبل أن يتولّى العدوّ الإسرائيلي أمرَها في ما بعد. وخزّن المكتب الثاني السلاح والذخيرة في أديرة وضعتها الرهبانيّات المارونيّة في تصرّف ميليشيات زعماء الموارنة. ومن الملحوظ أن اسم ريمون إدّه لم يعد يرد في اجتماعات زعماء الموارنة مع الديبلوماسيّين الأميركيّين، لأنه بدأ يبتعد عن المشروع الدموي لزملائه السابقين في «الحلف الثلاثي».
دور سوغانليان
وفي هذه السنة بالذات يرد اسم اللبناني ــ الأميركي، سركيس سوغانليان (وكنيته الأميركيّة «تاجر الموت») في تسليح وإعداد الميليشيات اليمينيّة في لبنان (وكان سركيس مقيماً في لبنان يومها). ومع أن هذا الاسم غير معروف كثيراً في لبنان، فإنه معروف في تاريخ العمليّات السريّة للمخابرات الأميركيّة حول العالم (فيلم نيكولاس كيج، «أمير الحرب»، مبني على سيرة سوغانليان). ويذكر نقولا ناصيف في كتابه المذكور أعلاه شحنة أسلحة للميليشيات اليمينيّة بتمويل (جزئي) من الثري الشمعوني، بطرس الخوري، وناصيف جبّور (ص. ٤٨٦ من كتاب ناصيف)، لكنه يقول إن الشحنة الأولى كانت في سنة ١٩٧٤. لكن سوغانليان نفسه اعترف في برنامج «فرونت لاين» الأميركي على محطة «بي. بي. إس» - التي وصفته بأنه كان «أكبر تاجر سلاح» في حقبة «الحرب الباردة» - بأن شحنة السلاح الأولى للميليشيات في لبنان كانت في عام ١٩٧٣، وليس في عام ١٩٧٤. واعترف سوغانليان قبل موته بأن كل عمليّاته في شحن السلاح كانت عبر «علاقة وثيقة جداً جدّاً جدّاً» ــ حسب وصفه هو ــ مع أجهزة في الحكومة الأميركيّة رفض أن يسمّيها (لكن الصحافة الأميركيّة أشارت إليها بأنها «وكالة المخابرات الأميركيّة» و«وكالة استخبارات الدفاع» التابعة لوزارة الدفاع الأميركيّة. كانت الحكومة الأميركيّة تعرف بعمله في «كل لحظة وساعة» حسب قوله، وتعرف أيضاً عن عمليّاته حول العالم. والعلاقة بين سوغانليان والمخابرات الأميركيّة ووزارة الدفاع الأميركيّة لم تعد سرّاً، إذ كشفت عنها وثائق مركز «أرشيف الأمن القومي» في جامعة جورج واشنطن التي تعمد إلى نشر وثائق أميركيّة سريّة (بعد خضوعها للرقابة الحكوميّة طبعاً). ويقول عنه مركز «أرشيف الأمن القومي» إنه كان متورّطاً في «كل نزاع أساسي حول العالم — وبموافقة ضمنيّة من الحكومة الأميركيّة». ولم تتطرّق المحادثات الديبلوماسيّة لطاقم السفارة الأميركيّة في بيروت إلى تجارة وعمليّات سوغانليان، لأنّ علاقته لم تمرّ يوماً عبر وزارة الخارجيّة، بل عبر أجهزة المخابرات حصراً.
ونعي سوغانليان في «واشنطن بوست» بعد وفاته في عام ٢٠١١ تحدّث صراحة عن استخدامه من قبل المخابرات الأميركيّة عن إيرادات (له) وصلت إلى ١٢ مليون دولار في السنة الواحدة في سنوات الفتنة. وعند وفاته، وصفه صديقه، الرئيس جورج بوش (الأب) — الذي عمل مديراً لوكالة المخابرات الأميركيّة في عهد ريتشارد نيكسون (أي في المرحلة التي نتحدّث عنها هنا) — بأنه «قَوَّى الروابط التي تجمع الإنسانيّة». فيما قالت الأم تيريزا عنه إن الله سيعوّض عليه «خيره» (كانت معروفة بإغداق الثناء على الطغاة والأثرياء الفاسدين الذين كانوا يتبرّعون لمشاريعها). ولعب سوغانليان دوراً بارزاً في تسليح صدّام حسين أثناء الحرب العراقيّة ــ الإيرانيّة، وتورّط في صفقة «إيران ــ كونترا». لكن حرب لبنان ــ قبل نشوبها بسنتيْن ــ كانت بداية لدور «تاجر الموت»، وبإيعاز مباشر من الحكومة الأميركيّة (ارتباط سوغانليان بالحكومة الأميركيّة لم يمنعه من مساعدة «الجيش السرّي الأرمني لتحرير أرمينيا» — الذي كان مُصنّفاً في أميركا تنظيماً إرهابياً — بسبب شدّة ارتباطه بالقضيّة الأرمنيّة).
وفي الوقت الذي كان سليمان فرنجيّة يعمل على تسليح الميليشيات اليمينيّة لضرب المقاومة الفلسطينيّة واليسار في لبنان، كان يرفض أي محاولة لتسليح لبنان بوجه العدوّ الإسرائيلي. وهناك وثيقة جديدة (غير واردة في كتاب ستوكر) تعود لـ٥ تمّوز ١٩٧٤ (وهي تعتمد على تنصّت أميركي على مكالمات لمراسل صحفي لبناني من القاهرة — واضح في سياق التقرير)، وهي من جملة وثائق «التقرير الإخباري اليومي» الذي تعدّه المخابرات الأميركيّة للرئيس الأميركي. ويظهر في هذا التقرير مدى المتابعة المستمرّة للرئيس الأميركي للشأن اللبناني. ويقول التقرير إن لبنان رفض في اجتماع مغلق للجامعة العربيّة في القاهرة «كل العروض الماليّة والعسكريّة العربيّة»، وإن لبنان أوضح أنه لا يريد قوّات عربيّة أو أنظمة صواريخ أرض-جو متطوّرة (التي عرضت دول عربيّة تقديمها إلى لبنان) خشية تسبّبها في اشتباكات مباشرة مع العدوّ الإسرائيلي. ونجح الوفد اللبناني أيضاً في عرقلة عروض المساعدة للفلسطينيّين. ورفض لبنان حتى عروض إنشاء ملاجئ في مخيّمات اللاجئين وعروض صواريخ سام-٧ للمقاومة الفلسطينيّة. أي إن سياسة فرنجيّة وقيادة الجيش كانت تسعى، بدعم أميركي، إلى إضعاف قوى الجيش في مواجهة عدوان إسرائيل، وتقوية الجيش والميليشيات اليمينيّة في مواجهة المقاومة الفلسطينيّة وقوى اليسار اللبناني وجمهور المعارضة في لبنان.
0 تعليقات:
ارسال التعليق