قانون الانتخاب الجديد يخل باتفاق الطائف
استاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية
حاول اتفاق الطائف وضع خريطة طريق لحل أزمات النظام السياسي والدستوري اللبناني، وتقوم هذه الخريطة على عدة مبادئ وقواعد سعت لاجراء اصلاحات سياسية ودستورية في هذا النظام، ومن جملة الاصلاحات السياسية، كان وضع قانون انتخاب جديد يعتمد المحافظة كدائرة انتخابية (الفقرة4 من البند أ)، مع مراعاة القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانين وصحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب واجياله، وفعالية ذلك التمثيل( الفقرة ج من بند الاصلاحات السياسية)، وذلك "بعد اعادة النظر في التقسيم الاداري في اطار وحدة الأرض والشعب والمؤسسات"(الفقرة 3 من بند اللامركزية الادارية).
ويستنتج من قراءة الفقرتين (أ) و (ج) في بند الاصلاحات السياسية، ان الطائف اعتمد المحافظة دائرة انتخابية كآلية لبناء مؤسسات الجمهورية الجديدة، مع مراعاة صحة التمثيل السياسي بعد تقسيم اداري، وذلك من أجل تأمين الانصهار الوطني والحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
وشكلت هذه النصوص اقراراً بعدم صحة التمثيل السياسي الذي كان يقوم على قوانين انتخابية تعتمد النظام الاكثري في دوائر متوسطة أو كبرى، وفي الحالتين لم تكن دوائر متساوية. وكانت نتائج ذلك النظام تؤدي الى تحكم الأكثرية وحصادها لكل المقاعد، حيث كان يجري تقسيم الدوائر بشكل تؤمن فيه أكثريات لصالح المرشحين المؤيدين للسلطة التنفيذية.
وأبرز مثال فاضح على ذلك انتخابات عام 1957 م النيابية، التي اعتمدها الرئيس كميل شمعون بطريقة تضمن الفوز لمؤيديه وخسارة معارضيه، حيث كان يجري تقسيم الدوائر بطريقة غير عادلة وغير متساوية وعلى مقاسات خاصة (Gerry mandering).
وطريقة التفصيل على مقاسات خاصة وضع اسسها حاكم ولاية ماسوشستس ( Massachusetts)الأميريكة عام 1812م، حيث أقدم حاكم الولاية : البريدج جيري Elbridge Gerry على تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل يؤمن فيه أكثريات لصالح المرشحين المؤيدين للحزب الحاكم.
وهذا التقسيم غير المتساوي للدوائر في لبنان كان يمس مبدأ المساواة وعدالة التمثيل، والذي كان من نتائجه ما وصل اليه لبنان من أزمات سياسية، ودستورية لا نزال نعيش تداعياتها.
فهل جاء قانون الانتخابات النيابية الجديد رقم 44 تاريخ 17 حزيران 2017م منسجماً ونصوص وروحية الطائف؟ وهل يحترم مبدأ المساواة ويؤمن عدالة التمثيل؟ وما هو مدى احترامه للدستور اللبناني وللمعايير العالمية لحق الانتخاب؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه باختصار شديد في دراستنا؛ من جهة مدى احترامه لمبدأ المساواة الدستوري، وامكانية تحقيق هدف الانصهار الوطني والعيش المشترك، كما جاء في اتفاق الطائف نصاً وروحاً.
أولاً: من جهة النص: تعتبر المساواة أحد المعايير العالمية لحق الانتخاب اذ حدد القانون الدولي الصفات أو الخصائص والمعايير التي يجب أن يتصف بها حق الانتخاب: وهي "الدورية، والنزاهة، والعمومية، والمساواة، والسرية". وقد أعلن لبنان التزامه بالمواثيق الدولية وبالاعلان العالمي لحقوق الانسان في الفقرة (ب) من من مقدمة اتفاق الطائف التي أصبحت مقدمة الدستور، وبالتالي التزامه بمبدأ المساواة الذي سنقصر حديثنا عليه كمعيار عالمي من معايير حق الانتخاب.
وتعني هذه المساواة اعطاء قيمة متساوية لاصوات الناخبين على صعيد عدد النواب في كل دائرة؛ اي المساواة في تقسيم الدوائر الانتخابية، لتكون ضامنة للمساواة في التمثيل السياسي كما جاء في أجتهاد المجلس الدستوري اللبناني بقراره رقم 4/96. وبمعنى اوضح يعني هذا المبدأ أن يكون لكل صوت القيمة المتساوية مع اصوات باقي المواطنين، لأن الاصوات تحصى ولا توزن على حد تعبير المرحوم أنور الخطيب.
لذلك عمدت معظم الدول الديمقراطية الى تضمين دساتيرها وقوانينها الانتخابية نصوصاً تكفل المساواة في حق الاقتراع بين الناخبين، ومنها الدول التي اعتمدت النظام النسبي اذ جعلت الدائرة الانتخابية على مستوى البلد ككل (الكيان الصهيوني، هولندا) أو على مستوى المحافظات أو المقاطعة الكبرى والمتساوية كالمانيا أو سويسرا التي اعتمدت المساواة بين الكانتونات في مجلس المقاطعات والمساواة بين الافراد في مجلس الشعب.
ولم يقتصر تطبيق مبدأ المساواة على الدول التي اعتمدت النظام الانتخابي النسبي والمختلط، بل طبقته كذلك الدول التي اعتمدت النظام الاكثري، بممارسة مبدأً ومعيار واحد في تقسيم الدوائر، حيث يقسم عدد الناخبين على عدد المقاعد في الدوائر الفردية، أو يحدد لكل عدد من الناخبين مقعداً نيابياً واحداً، كأميركا وبريطانيا.
أما القانون الانتخابي الجديد الذي أدخل النسبية لأول مرة الى لبنان، فقد أخل بمبدأ المساواة عندما قسم لبنان الى 15 دائرة غير متساوية، لا في عدد الناخبين ولا في عدد النواب، إذ تراوح عدد النواب بين 5 نواب في دائرة صيدا – جزين، و 13 نائبا في دائرة الشوف –عالية، أي ان قيمة الصوت للناخب في الشوف -عالية يتجاوز ضعف قيمة الصوت في دائرة صيدا - جزين أو في دائرة زحلة مثلاً.
مما يعني ان هذا القانون قد أخل بمعيار عالمي من معايير حق الانتخاب نص عليه القانون الدولي، وأخل باتفاق الطائف بشكل فاضح، عندما لم يأخذ بالمحافظة كدوائر انتخابية كبرى متساوية، وأخل بالدستور اللبناني و بالفقرة (ج) من مقدمة الدستور، التي نصت على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، من دون تمايز أو تفضيل، كما خرج عن المادة 7، التي قالت بأن "كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم".
كما ان هذا القانون تجاهل اجتهاد المجلس الدستوري اللبناني؛ الذي رأى ان تقسيم الدوائر الانتخابية يجب ان يكون ضامنا للمساواة في التمثيل السياسي، وبدلا من ذلك كله اعتمد دوائر غير متساوية ولم يعط لاصوات الناخبين قيمة متساوية، بل جاء هذا القانون على مقاس معظم القوى السياسية الكبرى، ان لم يكن كلها ووفق مصالحها الانتخابية.
ثانياً: من جهة روحية الطائف: اما الهدف الثاني والأبعد الذي سعى اليه الطائف، فهو خلق دوائر مختلطة تضم طوائف ومذاهب متعددة، تفرض بالتالي نشوء تحالفات وتكتلات اجتماعية جديدة على حساب التكتلات الطائفية التقليدية، لأن هناك تداخلا كبيراً بين تغيير القوانين الانتخابية والتكتلات الاجتماعية السياسية، كما يؤكد روسل دالتون Russel Dalton الذي لاحظ تراجع الانقسامات التقليدية امام انقسامات اجتماعية جديدة عند تغيير القوانين الانتخابية.
ويبدو ان التغيير الذي جاء به قانون الانتخابات اللبناني الجديد، جاء لتكريس وتجذير وضمان استمرارية الانقسامات التقليدية، ولو استعرضنا الدوائر الـ15 التي جاء بها القانون الجديد لرأينا معظمها ذات لون طائفي أو مذهبي أو على الأقل يطغى فيها مذهب او طائفة معينة، وأبرزها:
دائرة بيروت الاولى: 6 نواب مسيحيين من أصل 8.
دائرة بيروت الثانية: 6 نواب سنة من أصل 11.
دائرة صور- الزهراني (6 نواب شيعة من أصل 7)
دائرة المتن 8 نواب مسيحيين من أصل 8
دائرة كسروان- جبيل 7 نواب موارنة من أصل 8.
دائرة البترون - بشري – الكورة- زغرتا: 7 موارنة من أصل 10 مسيحيين
دائرة طرابلس -المنية –الضنية: 8 سنة من أصل 11.
دائرة بعلبك الهرمل: 6 شيعة من أصل 10.
وهذا يعني ان حوالى نصف الدوائر يطغى عليها اللون الطائفي أو المذهبي، مما سيؤدي بالتالي الى تكريس الخطاب السياسي الطائفي، على عكس ما سعت اليه روحية اتفاق الطائف، لأن الهدف الذي سعى اليه هذا الاتفاق - في اعتماد المحافطة كدائرة انتخابية- كان ايجاد تكتلات اجتماعية وسياسية جديدة تستوعب التكتلات المذهبية، وتخلق بينها مصالح سياسية مشتركة تؤدي بالنتيجة الى بروز خطاب سياسي عابر للطوائف والمذاهب وقائم على اسس وطنية وبرامج انتخابية تنموية، بدلا من الخطاب السياسي الذي يسعى الى اثارة العصبيات الدينية والانتماءات الضيقة، والتي لم ولن تساهم في تأمين الانصهار الوطني والحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
والخلاصة أنه رغم ايجابية التغيير واعتماد النظام النسبي لأول مرة في لبنان واعطاء نوع من الديمقراطية في اعتماد الصوت التفضيلي، الذي لم يعتمد كذلك معياراً واحداً؛ فان هذا القانون الجديد لم يراع اتفاق الطائف ولا نصوص الدستور اللبناني من جهة المساواة؛ ولا يظهر انه سيساعد في تحقيق اهداف الطائف لا من الناحية الدستورية، لإخلاله بمبدأ المساواة، ولا من الناحية السياسية باعتماد دوائر تتميز بلون طائفي أو مذهبي، الأمر الذي لا يبشر بالخير الذي توقعه واضعو الميثاق من دور لقانون الانتخاب في معالجة أزمات النظام اللبناني. بل يخشى من ان تكون النتيجة عكس توقعاتهم، ومن ان يؤدي هذا القانون الى تقويض اتفاق الطائف ككل.
وبدلاً من ان يكون النظام الانتخابي النسبي هو الحل، فقد تم لبننته وتبنيه في الشكل بعد افراغه من المضمون، وآمل أن يكون رأيي خاطئاً، باعتبار أنني أرى ان القانون النسبي اللبناني سيكون مضرب مثل للقوانين النسبية التي تفصل على مقاييس خاصة، وسيغطى على تفصيل المقاسات الخاصة (Gerry mandering) التي اعتمدت في النظام الاكثري منذ اكثر من قرنين في الولايات الاميركية المتحدة.
0 تعليقات:
ارسال التعليق