فلنعتمد القانون الأرثوذكسي لمرة واحدة
جريدة النهار - 4 آذار 2017
بدون مقدّمات،
أولا: لبنان مجتمع جماعات، ولم يصل بعد إلى وضعية مجتمع الأفراد حيث يصل كل مواطن منهم إلى أن يكون قيمة بذاته لا بجماعته الجزئية. ومجتمع الجماعات ينبغي عليه الانطلاق حكماً من المبدأ المؤسِّس للعَقد بين الأطراف التي تريد العيش معاً. والعقد هنا يرادف الإرادة العامة: إرادة العيش المشترك العامة. فأطراف العقد في المجتمع البسيط هم الأفراد. أما في المجتمع المركّب فهم الجماعات. ولكن ما هي الآلية التي تسمح بالعيش معاً كجماعات، وتسمح في الوقت نفسه للأفراد بالخروج من شرنقة جماعاتهم الجزئية ليعيشوا معاً في الفضاء المواطني العمومي الدامج وبتشارك في الحياة العمومية؟ الجواب لاحقاً.
ثانياً: لقد اعترف الدستور اللبناني بتعددية مجتمعنا. ورسمت نصوصُه معالمَ ديموقراطية كونسوسيائية (Démocratie Consociative) من الأصل اللاتيني Consociatio، أي إرادة اجتماع جماعتين أو أكثر، لتكوين كيان سياسيّ واحد مركّب. وهذه الديموقراطية لها أصول وقواعد خاصة لحسن ممارستها. أما أهدافها القائمة على مبادئ مصدر السلطة، والحريات، والحقوق، والعدل، والمشاركة... فهي تتماثل مع الديموقراطية الأصولية. إنها آليّة شديدة الدقة تقتضي من كل طرف درجة عالية من الأخلاق السياسية في التعاطي مع الآخر لتصبح قابلة لأن تكون وسيلة صالحة للعبور من اجتماع الجماعات الى اجتماع الأفراد، ويصبح كل فرد قيمة إنسانية بذاته، ومواطناً كامل المواطنية إزاء مواطنيه.
ثالثاً: إن الدستور اللبناني نظّم حياة الجماعات اللبنانية تنظيماً كونسوسيائيا مقبولاً، وفتح أمام اللبنانيين، في حال أحسنوا استخدامه، باباً واسعاً للتقدم نحو المواطنية الكاملة دون إلغاء الخصوصيات التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الانسان. ولكن الممارسات السيئة أدّت إلى اختلال في بنود العقد وتطبيق آلياته الناظمة. فهل أن مجتمعاً كهذا لا يصلح لأن تعيش مكوّناته معاً؟ أم هل أن تطبيق الآليّة الناظمة كان تطبيقاً سيئاً؟
على رغم جميع المساوئ والكوابح التي واكبت تجربتنا في العيش المشترك، نشأت بين اللبنانيين حالة من الشعور العميق بضرورة التكافل، والانتماء الواحد بما يرسّخ في النفوس صورةً لجمهورية تدمج الطوائف والولاءات داخل هويّة جامعة تُخرج الأفراد من شرانقهم إلى فضاء الدولة. إلا ان الانحرافات ومساوئ التطبيق في نظامنا السياسي، والتي تتعلق بجوهر «الديموقراطية الكونسوسيائية» زعزعت ركائز هذه الديموقراطية الأربع التي تسقط مفاعيلها، وينتفي دورها في حال اختلّت واحدة منها:
1) الركيزة الأولى، هي مبدأ التمثيل النسبي. وفلسفة هذا المبدأ تتعلق بمرجعية الإرادة العامة التي ينبغي أن تعبّر عن الإرادة الحقيقية لكلّ طرف من أطراف العقد. ولكن سوء الممارسات المتلاحقة، منذ انتخابات عام 1992 لغاية اليوم، أدت ببعض أطراف العقد إلى الاعتراض الجذري على التمثيل في صحته بسبب اختلال آلياته.
2) الركيزة الثانية، هي توزيع المال العام توزيعاَ متوازناً بين المناطق. وهذا ما تنصّ عليه صراحة مقدمة الدستور حول الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ولكن الغبنَ لَحِقَ ولا يزال بالعديد من المناطق اللبنانية التي تحمل سمات مكوّناتها في أطراف العقد.
3) الركيزة الثالثة، هي وجود قوانين تحمي الخصوصيات الأساسية التي تتعلق بأطراف العقد من جهة هوياتهم الأوّلية، ولكنها مورست بصورة مجتزأة، وأحياناً غير متوازنة. إلا أن الاختلال الأفضح هو غياب قانون للدولة اللبنانية يتعلق بالأحوال الشخصية، والذي من شأنه تسهيل الانتقال إلى النظام الديموقراطي الأصولي، وذلك بإفساح المجال أمام المواطنين الراغبين في الدخول إلى الدولة من بابها الذاتي، لا من باب طوائفهم، أن يتمكنوا من ذلك بقوانين دولتهم، لا بقوانين دولة أخرى.
4) الركيزة الرابعة، هي حق الفيتو المتبادل. وفلسفة هذا المبدأ تقوم على ضمان الحق لكل طرف من أطراف العقد في الاعتراض على أي قانون، أو ممارسة سلطوية، يجد فيها نفسه مهدّدا بالإلغاء، أو بالتهميش، أو بالإبعاد عن المشاركة الفعلية في قيادة الدولة. وقد تكررت الاستهانة بهذه الركيزة منذ فترة طويلة من تاريخنا المستقل.
لقد وصلنا اليوم إلى هذا الاختلال الكبير الذي ينال من الركائز الأربع مجتمعة. فكيف الخروج من هذا المأزق الذي أصبح يهدّد العقد الاجتماعي برمّته، والوطن بالتفكك، والدولة بالزوال؟ إنني أجد في مشروع اللقاء الأرثوذكسي عودة إلى البدايات. وهنا تكمن لديّ المرارة في التعاطي معه. إلا أنني أعود إلى الواقع، وأنطلق منه كمن شيّد بنياناً بذل من أجله تعباً، وعرقاً، وسنوات من العمر، ثم انهارت أجزاء من البنيان أمام عينيه، قبل أن يكتمل. فلكي نتمكن من إعادة بناء ما تهدّم، ينبغي أن ننظر إلى مشروع اللقاء الارثوذكسي على أنه مجرّد اقتراح يقتضي التبصّر في أسبابه المرتبطة بجميع مساوئ الممارسات التي أدت إليه، والتمعّن في مغزاه وغايته. أما تبريره، بنظري، ففي النقاط الآتية:
أولاً: بما أنه عودة مريرة إلى البدايات، فلنستفد من هذه العودة المحتومة لإعادة إنشاء العقد بيننا، وبالصورة الأصلب هذه المرة، لأنه سيكون من صنع أطرافه حقا، بما يفي بالمبدأ النظري الأساسي في الديموقراطية الكونسوسيائية.
ثانياً: يكون على هذا المجلس طيلة سنوات أربع شرط تحقيق ما يأتي:
1) اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية، ووضع قانون لانتخاب المجالس النيابية اللاحقة خارج القيد الطائفي.
2) تأسيس مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.
3) اتخاذ الإجراءات الكفيلة باعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة تأميناً للمشاركة الفاعلة بين المواطنين اللبنانيين.
4) اتخاذ الإجراءات الكفيلة باعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد وقادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً بصورة مستدامة ومتوازنة. وهذا ما يحقق ركيزة أخرى من ركائز الديموقراطية الكونسوسيائية.
5) وضع قانون عصري للأحزاب يشجع على قيام أحزاب عابرة للطوائف، ويؤسّس للعبور من المجتمع السياسي الطائفي الى المجتمع السياسي المدني.
6) وضع قانون مدني للأحوال الشخصية اختياري (أو إلزامي) يؤسّس للعبور إلى الدولة المدنية.
7) وضع استراتيجية دفاع وطني ينخرط فيها اللبنانيون عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها.
8) وضع قانون يدخل الاستفتاء العام في آليات تحديد الإرادة العامة وحجمها تحقيقاً للنظام الديموقراطي العام.
9) اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعادة النظر في مناهج التعليم الحكومي والخاص، الجامعي وما قبل الجامعي، وفق مبادئ التربية على المواطنية بما يعزّز الانتماء الوطني والانفتاح الروحي والثقافي.
10) اتخاذ الإجراءات الكفيلة باستكمال إنجاز الكتاب المدرسي الموحّد في مادتي التاريخ والتربية الوطنية.
إن العودة الى مشروع اللقاء الأرثوذكسي، لهذه المرة فقط، قادرة على تحقيق ما يلي:
أولاً: تحديد الإرادة العامة اللبنانية بين أطراف العقد تحديدا صحيحا بحيث يكون التعاقد بينهم على مستقبل لبنان، وقانونه الانتخابي المقبل، تعاقدا سليما من حيث شروط التعاقد.
ثانياً: إتاحة الوقت الكافي لوضع قانون انتخاب عقلاني، وغير متسرّع، وعادل، تتكوّن بفضله مرحلة انتقالية وجسر عبور نحو الديموقراطية الأصولية لدولة مدنية.
ثالثا: تعزيز الديموقراطية داخل الطوائف بحيث تنشأ فيها تعددية الرأي بما يعطي دفعاً للممارسة الحزبية السياسية الدامجة (Inclusive)
0 تعليقات:
ارسال التعليق