تحميل.....
منذ أسبوع

مهلة تشكيل الحكومة في ظل غياب النص

إن المعلومات الواردة في هذا الموقع متاحة للجميع، ويمكن إعادة استخدامها بشرط الإشارة إلى المصدر: الموقع الالكتروني لكلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية - الجامعة اللبنانية
 
يبدو لكل متابع عن كثب لواقع النظام السياسي اللبناني بعد الطائف، أن الأزمة الأخيرة أو بالأحرى الحالية لم تكن الاولى، ولا يظهر في الأفق السياسي المنظور، أنها ستكون الأخيرة. وقد أثير، مؤخراً، الكثير من الجدل السياسي والدستوري حول عدم تحديد مهلة للرئيس المكلف بتشكيل الحكومة في الدستور اللبناني، وشاعت على إثره آراء واجتهادات متبانية، انطلق بعضها من دوافع سياسية بحتة أو طائفية واضحة، بنيت في معظمها على قراءات مجتزئة لبعض مواد الدستور، ووصلت أحياناً الى التحريض، وأحياناً أخرى الى التهويل بسبب غياب النص الدستوري الواضح حول المهلة.
تحت تأثير هذا الوضع الملتبس، طرح بعضهم ما يسمى بالمدة المعقولة، أو فترة السماح، ومبدأ حسن الادارة، وغيره من المبادئ العامة للقانون.  ودار كل هذا الجدل حول سبب عدم تحديد المهلة، وحول الحلول الممكنة إذا طالت هذه المهلة؟ 
وهذا ما سنحاول الإجابة عنه باختصار فيما يلي؟
في البداية، لا بد لنا من التمييز بين مرحلتين لحقتا اتفاق الطائف: الأولى منذ تعديلات 21/9/1990 لغاية أيار 2005، تاريخ انسحاب الجيش السوري والثانية تبدأ منذ الانسحاب السوري لتاريخه.
ففي المرحلة الأولى التي شكَلت خلالها عشر حكومات، كان معدل الفترة التي يستغرقها تأليف الحكومة دون السبعة أيام (بين تكليف رئيس الحكومة وصدور مراسيم تشكيلها)، وكلنا يعلم أنه كان هناك مرجعاً إقليمياً وبتفويض شبه دولي يقوم  بدور ضابط الايقاع... ولا ضرورة لمناقشة هذا الأمر لأنه لم تظهر حينها خلافات دستورية حول مهلة التشكيل، حيث كانت السياسة تعلو على القانون...
أما المرحلة الثانية، التي شكل خلالها سبع حكومات، فإن معدل الفترة قفز الى ما فوق المئة يوم، وهو الأمر الذي أثار التساؤلات حول سبب التأخير: فهل هو سياسي إقليمي دولي؟ أم هو داخلي دستوري؟ وهذا ما يعنينا في دراستنا القانونية هذه، تاركين البعد السياسي للمحللين السياسيين.
فمن الناحية الدستورية نجد النص الذي يرعى عملية التكليف والتأليف في المادة 53 من دستورنا، التي تعدلت جذرياً بموجب اتفاق الطائف، فبعد أن كانت تنص المادة القديمة على أن "رئيس الجمهورية يعيَن الوزراء ويسمي منهم رئيساً ويقيلهم..." ،  جاء تعديل الطائف ليفصل ويميز بين عمليتي التكليف والتأليف.  
بالنسبة للأولى، أي التكليف، أصبح النص الجديد في م53 ف2 : "يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، استناداً الى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها..." وأعطت الفقرة 3 رئيس الجمهورية صلاحية إصدار مرسوم تسمية رئيس الحكومة منفرداً. ولم يحدد النص مهلة محددة لرئيس الجمهورية للقيام بالاستشارات أو لاصداره مرسوم التكليف.
أما على صعيد التأليف فقد أوردت الفقرة الرابعة ما يلي: "يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم استقالة الوزراء أو إقالتهم..."، وجاءت المادة 64 ف2 لتنص على دور الرئيس المكلف "يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها".
أي أن هاتين العمليتين (التكليف والتشكيل) اللتين كانتا من صلاحية رئيس الجمهورية منفرداً أصبحتا بعد الطائف منفصلتين تماما، حيث التأليف لا يمكن أن يتم بدون اتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف. ولا ننسى أن هذا التعديل الجذري جاء من جملة تعديلات إصلاحية أقرتها وثيقة الطائف، طالت السلطة التنفيذية، أبرزها نقل السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعا (م 17)، والمادة (64) الجديدة التي نصت على أن رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة، يمثلها ويتكلم باسمها ويعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء. وكذلك المادة 65 التي أكدت على اناطة السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء.
نستخلص من قراءة هذه التعديلات، أنها نقلت السلطة التنفيذية من  الأحادية الى  الجماعية، كما أوردت النصوص، ومن الأحادية الى الثنائية كما كرستها الممارسة السياسية.كما انها لم تحدد للرئيسين مهلة معينة.
 واذا كان عدم تحديد مهلة للتكليف لم يثر أية مشكلة، حيث كرس العرف قاعدة المدة المعقولة والمنطقية، فإن عدم تحديد مهلة للتأليف أو تشكيل الحكومة آثار عدة إشكالات، مما طرح التساؤل حول سبب عدم التحديد الذي أدى الى العديد من التفسيرات والتأويلات.
ولتفسير هذا الأمر من وجهة نظر قانونية خالصة، فإن أول ما يتبادر الى الذهن هو: هل كان عدم التحديد هذا مقصوداً أم لا؟
فاذا كان عدم النص على التحديد غير مقصود؛ فإن مدرسة التفسير الواجب إعمالها هي مدرسة التفسير العلمي الحر، التي تتصف بالمرونة، والتي تطالب بالتحري عن إرادة المشترع وتبَينها وإعمالها في حال الوضوح، وتفسير النص في ضوء مقتضيات الواقع والبيئة المعاصرة في حال غياب النص، كما يقول الفقيه الفرنسي "جيني"، وكما طالب باعتماده بعض السياسيين مؤخراً.
أما إذا كان عدم التحديد مقصوداً، فعندها يتم اللجوء الى مدرسة التفسير الحرفي التي تعني التقيَد بحرفية ما أورده المشرَع وقت التشريع، وهذه المدرسة، التي تسمى بمذهب الإرادة الحقيقية أوالمفترضة، تتوافق مع مبدأ سمو الدستور وعلو قواعده على سائر القواعد القانونية، مما يفرض علينا التحري عن ارادة المشترع الحقيقية في عدم ايراده تحديدا لمهلة تشكيل الحكومة.
إن من الثابت، وبشهادة من عايشوا أو شاركوا بمفاوضات الطائف، أن موضوع تحديد مهلة للتأليف قد طرح، وبعد استبعاد  خيار ترك الأمور على ما كانت عليه في الدستور السابق لإلزام رئيس الوزراء بالتوافق مع رئيس الجمهورية، وردت عدة اقتراحات أثناء المناقشات من أبرزها:
أولاً: تقييد الرئيس المكلف بمهلة زمنية محددة (شهر)، وإذا عجز عن التأليف يعتبر الرئيس المكلف معتذراً حكماً، ويعمد بعدها رئيس الجمهورية إلى اجراء استشارات نيابية جديدة لتسمية رئيس حكومة جديد.
لكن هذه الصيغة تم رفضها من قبل الرئيس " صائب سلام"، لأنها تضع رئيس الحكومة المكلف تحت رحمة رئيس الجمهورية الذي يمكنه بكل بساطة رفض كافة الصيغ التي يقدمها رئيس الحكومة، إلا إذا وضع الصيغة التي يريدها رئيس الجمهورية، وهذا ما يعيد الأمور الى ما كانت عليه قبل الطائف، ولهذا تم استبعاد هذا الاقتراح  وتم استبعاد تحديد المهلة من اتفاق الطائف، وبالتالي من التعديلات الدستورية التي بنيت عليه.
ثانياً: الاحتكام الى المجلس النيابي في حال حصول خلاف بين الرئيسين (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) حول التشكيل، فيحسم الأمر عندها المجلس بالتصويت، إما لصالح رئيس الحكومة أو لصالح رئيس الجمهورية، وهذا الخيار تم استبعاده، أيضاً، لأنه يعني سيطرة أو تغليب أحد رأسي السلطة التنفيذية على الآخر، وهو ما لا يتناسب مع طبيعة النظام اللبناني التوافقية التي كرَسها الطائف في المرحلة الانتقالية التي تسبق إلغاء الطائفية السياسية على الأقل. لهذا استبعد كذلك هذا الخيار، إذ انه بعد التداول في سلبيات وايجابيات كل من هذه الاقتراحات تم اعتماد الليونة في تشكيل الحكومة وجاء النص في المادة (53) خالياً من تحديد مهلة، بغاية إلزام الرئيسين بالتوافق، مهما طالت المدة، حول الحكومة المنوي تشكيلها، وتحميل الطرفين مسؤولية خلافهما، وعدم التشكيل امام الرأي العام والمجلس النيابي.
إذن، كان القصد من عدم تحديد المهلة، هو فرض التوافق على الرئيسين، مما يعني نجاحهما سوياً او فشلهما معاً، وهذا ما يواجهه الرئيسان في كل فترة في ظل غياب العوامل الاقليمية او الدولي المساعدة.
وما يجعلنا نصل الى هذه النتيجة هو قراءتنا (عدم النص هذه)  كجزء من النصوص الدستورية الأخرى التي كرست التوافقية، وأولها الزامية اطلاع رئيس المجلس النيابي على نتائج الاستشارات وتشاور رئيس الجمهورية معه، مروراً بنص المادة 95 الجديدة وتأكيدها على تمثيل الطوائف بصورة عادلة خلال المرحلة الانتقالية التي تسبق إلغاء الطائفية السياسية، وصولاً الى الفقرة ي من مقدمة الدستور التي تنص  على أن " لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك ". 
واذا كان الصلح سيد الأحكام القانونية، فإن التوافق سيد وروح  الأحكام الدستورية. مهما طالت مهلة  تشكيل الحكومة فهي تنسجم مع روحية ونص الدستور اللبناني والمواثيق التي يقوم عليها نظامنا السياسي، والتي تخلص إلى أن "التآلف أهم من التأليف" على حد تعبير دولة الرئيس بري مؤخراً. 
 

تحميل

0 تعليقات:

ارسال التعليق